اليوم جبتلكم قصة حلوة يا ريت تعجبكم
الإعتذار المتأخر
كنت و سماح صديقتين حميمتين في الصف التاسع لا نفترق عن بعضنا ، ففي الصف نجلس معاً في نفس المقعد و في الباحة نمشي سوية ، و دفاترنا من نفس النوع و اللون ، و نلبس نفس النظارات الطبية ، و كنا نتحدث بالهاتف يومياً ، فنتفق على كتابة الوظائف و حفظ الدروس ، حتى اننا كنا نتفق على نوع الشطائر التي نأكلها في المدرسة ، كنت أحبها جداً، و الأمر الأكبر الذي كان يجمعنا هو حبنا لمادة اللغة العربية و معلمتها .. الآنسة ريم هاشم ، كنا ننتظر الحصة بفارغ الصبر ، و هذا هو الأمر الوحيد الذي كنا نتنافس فيه أكثر من أن نتفق ، فكانت وظائفنا و دفاترنا مثالاً يحتذى ، فإن أبدعَت في وظيفة ما أبدعتُ في كتابة موضوع إنشاء ، و إن سبقتني في إعراب كلمة غريبة ، تغلبت عليها بشرح قصيدة صعبة و لشد ما كان يسعدنا ان تمدحنا معلمتنا المحبوبة ريم هاشم و تثني على تنافسنا الشريف و صداقتنا النادرة ، و بدأ هذا التنافس يزداد و يفسد علينا صداقتنا بعد ان تجاوز حدوده الشريفة ، ليصل الى مرحلة الغيرة المذمومة و الأنانية ، فأخذنا نتحين الفرص للعثور على اخطاء بعضنا و التشهير بها أمام الآنسة ريم ، لنيل مكانة أعلى في قلبها ، فأخذت سماح تعطيني معلومات خاطئة عن بعض الأمور عندما أسألها لتربكني ... كما أرشدتها إلى وظيفة مختلفة لأجعلها تقصر في واجباتها .
و ذات يوم كان لدينا إمتحان في اللغة العربية و كنا نتدرب معاً على حفظ النصوص الشعرية المطلوبة منا و نكتبها على الورق لنصححها ،و عند دخول المعلمة و قبل بدء الأمتحان جمعنا أوراقنا و أعدناها لمحافظنا .. و لكن إحدى تلك الأوراق وقعت تحت قدمي سماح دون ان تشعر .. فلم ألق للأمر بالاً و بدأ الإمتحان و أخذت الآنسة ريم تمر بين الطالبات فوقعت عينيها على الورقة تحت قدمي سماح و انحنت و التقطتها و لسوء الحظ كانت تحتوي على قصيدة الأمتحان كاملة ، فظنت المعلمة ان سماح قد وضعتها عن قصد لتنقل منها .. و هنا .. لست أدري كيف مرت الاحداث متتابعة بسرعة فائقة قلبت حياتي رأساً على عقب ..
سألتها المعلمة بلهجة اتهام : ماذا تفعل هذه الورقة تحت قدميك يا سماح ؟ و صعقت سماح لهذا الموقف و هذا الاتهام .. و احتقن وجهها و دفعت نظارتها الى وجهها بسبابتها ، و نظرت الي مستنجدة و قالت : صدقيني يا انسة .. لا يمكنني ان اغش .. الا تعرفينني ؟؟ لقد وقعت الورقة خطأ قبل الإمتحان .. إسألي سلوى .. صمتت المعلمة قليلاً .. و نظرت الي .. لكنني نظرت الى الأرض و صمت ... و كأن الكلام لا يعنيني ... فكرت للحظة ان هذه هي وسيلتي لإزاحة سماح عن طريقي ... و التفتت سماح الي مصعوقة من صمتي و قالت : سلوى ... تكلمي ... فلم أزد على ان قلت لها متلئكة : ربما .. ربما .. نعم و سحبت المعلمة الورقة و نظرت الينا نظرة حزينة و طويلة و كلها خيبة أمل ، و انهارت سماح على المقعد شاحبة متهالكة و هي لا تزال تحملق بي غير مصدقة ... صحوت .. و حاولت ان استرجع موقفي ... استعيد احترامي لنفسي و ان استعيد احترام سماح لي ... حاولت ان اقول : ان سماح بريئة ... و لكن لساني ارتبط في حلقي .. و خانني كما خنته ... و بدا و كأنني خطوت في طريق لا عودة فيه .. و جبنت عن التراجع ..
::54::55:
لم اعد مع سماح في ذلك اليوم الى المنزل و لا بعد ذلك اليوم ، لم نعد نتحدث في الهاتف أو نتفق على دروسنا أو على نوع الشطائر ، و لم نعد نتنافس في الواجبات ، حتى حصة اللغة العربية فقدت ذلك البريق الأخاذ و الأمر من ذلك لم أعد أستطيع النظر إلى عيني سماح و كلما نظرت في عيني الآنسة ريم شعرت و كأنها تعاتبني و فقدت اهتمامها بنا ، فما كان يجذبها الينا الا اجتهادنا و صداقتنا المميزة ..
كم تمنيت لو تعاتبني سماح ، لو تشتمني ، لو تضربني و لكنها اعتبرتني لا استحق حتى العتاب .. نعم .. لابد انها احتقرتني و اعتبرتني خائنة ، فهل أنا كذلك حقاً ؟؟
و مرت علي ليالي طويلة هجر النوم عيني و حاصرني الندم و بللت الدموع وسادتي ... كم تمنيت لو يعودالزمن لأغير موقفي ... كم كنت أستيقظ و انوي الاعتذار الى سماح ان اعترف بذنبي و أطلب الغفران و لكن ماذا اقول لها ؟؟ كنت شاردة ؟؟ نائمة ؟؟ لم اقصد ما فعلت ؟؟ لا ، لم أكن شاردة و لا نائمة و قصدت ما فعلت ، ليتني استطيع الاعتراف بذنبي و لكنني كنت أجبن و أخجل و بقيت في ترددي و خجلي و أنا أقول غداً.. غداً الى ان مضى العام و انتقلنا الى مرحلة دراسية جديدة و انتقلت سماح الى مدرسة أخرى و لم اعد اسمع عن اخبارها شيء ..
و مر العام اثر العام و الغصة و الندم يملآن كلما ذكرت الصف التاسع و سماح و الانسة ريم .. و انتسبت لكلية التربية و علم النفس و تخرجت و عملت مرشدة نفسية في مدرستي القديمة احاول بصدق و إخلاص مساعدة الطالبات في حل مشاكلهن النفسية و الاجتماعية ..
و ذات يوم .. دخلت مكتبي طالبتان في الصف التسع و الدموع تملأ عيناهما ، كانتا صديقتين و قد اشتكت احداهما الاخرى ووجدت قصتي مع سماح تتكرر امام عيني فأردت بكل ما أوتيت من قوة أن أسخر علمي كله لأساعدهما في الدفاع عن صداقتهما و حل مشاكلهما بشجاعة و حدثتهما عن قصتي مع سماح .. عن صديقتي التي لم استطع تعويضها رغم مرور الزمن .. و تحدثنا طويلا و لم يقطع حديثنا الا إمرأة دخلت الغرفة ..
بدت في منتصف العمر .. باسمة الوجه.. تضع نظارات على عينيها و قالت : مرحباً أعرفك بنفسي أنا سماح أم سناء جئت لأستوضح عن مشكلة حصلت لإبنتي ..و شعرت بأنني اعرفها و خاصة بعد أن دفعت نظارتها بسبابتها و نظرت ملياً في وجهها و أمعنت النظر الي .. و كم كانت مفاجئة مذهلة .. انها هي ، نعم ، هي سماح صديقتي القديمة ..
و لم اشعر بنفسي الا و انا اقترب منها و انظر الى عينيها .. لقد عرفتني .. و تعانقنا طويلاً و بكينا طويلا .. ثم امسكت بكتفي و نظرت الي نظرة عتاب لطالما تمنيت ان اراها منذ زمن طويل لاشعر بأنني انسان يصيب و يخطأ و يستحق العتاب و العقاب كما يستحق المكافئة و الثواب ..
و اختفت الغصة من حلقي و انطلق لساني من عقاله فاعتذرت دون ان اعتذر و سامحتني دون كلمات و امسكت بيدها و خرجنا سوية نتمشى في الرواق كما كما نتمشى قبل 20 عاماًَ نتحدث و نضحك و خرجت الفتاتان وراءنا تمسكان ايدي بعضهما و هما تضحكان و تتحدثان بمحبة عن الدرس القادم ومعلمة اللغة العربية ..
اتمنى تعجبكم
و بانتظار الردود و التقاييم
تحياتي
:::OO:::